الأحد 12 ذو الحجة 1446 هـ - 08 يونيو 2025

التواطؤ المزدوج: واشنطن تحمي إسرائيل وتقوّض المحكمة الجنائية الدولية

مع تصاعد الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة، تتكشف أبعاد جديدة لما يمكن وصفه بـ«التواطؤ المزدوج» للولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تواصل واشنطن تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، في الوقت الذي تفرض فيه ضغوطًا وعقوبات على المحكمة الجنائية الدولية التي تسعى لمحاسبة الأطراف المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، خصوصًا في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

هذا التداخل بين السياسة والدبلوماسية والقانون الدولي يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول مدى التزام الولايات المتحدة بالقيم التي تدعي الدفاع عنها، ويطرح تساؤلات حقيقية عن تأثير هذه السياسات على استقرار الشرق الأوسط، وصدقية واشنطن على الساحة الدولية.

استمرار سياسة أثبتت فشلها

منذ قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، كانت الولايات المتحدة أبرز حلفائها في المنطقة، وقدّمت لها مساعدات مالية وعسكرية ضخمة تجاوزت 310 مليارات دولار. هذا الدعم، الذي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة مع تقديم 12.5 مليار دولار منذ أكتوبر 2023 فقط، كان محور نقاش محتدم، لا سيما مع التفاقم الكبير في انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة في غزة.
وتظهر الوقائع أن إسرائيل، بدعم أمريكي مباشر، استمرت في سياسات الاستيطان غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة، وفرض الحصار الخانق على قطاع غزة منذ عام 2005، إضافة إلى تنفيذ حملات عسكرية خلفت عشرات آلاف الشهداء المدنيين، أغلبهم من النساء والأطفال، باستخدام أسلحة أمريكية الصنع، منها قنابل تزن 500 رطل.
ورغم هذه الأفعال، لم تكتف واشنطن بتوفير الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، بل مارست حق النقض «الفيتو» 49 مرة في مجلس الأمن لمنع إصدار قرارات دولية تدين إسرائيل أو تفرض قيودًا عليها. هذه السياسة دفعت الكثيرين إلى اتهام الولايات المتحدة بفقدان دورها كوسيط نزيه في عملية السلام، وتحويلها إلى طرف منحاز يُعيق تحقيق تسوية عادلة.
على صعيد دولي، لم يقتصر الأمر على التصريحات والتقارير الحقوقية، بل ظهرت وثائق رسمية تكشف قلق دول حليفة للولايات المتحدة، مثل أستراليا، من توجه واشنطن لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بسبب تحقيقها في جرائم الحرب المحتملة في غزة.
ووفق وثائق وزارة الخارجية الأسترالية، التي كشفت عنها مؤخرًا وسائل إعلام غربية، أجرى كبار المسؤولين في الوزارة محادثات مع إدارة ترامب عام 2025 أعربوا فيها عن خشيتهم من أن تؤدي العقوبات الأمريكية إلى تقييد عمل المحكمة، وعرقلة التحقيقات في الانتهاكات التي قد تشمل مسؤولين أستراليين أو حلفاء آخرين.
وتشير الوثائق إلى أن أستراليا تخشى أن يؤدي هذا المسار إلى تقويض سلطة المحكمة، وفتح الباب أمام الإفلات من العقاب، الأمر الذي قد يشجع الأطراف المتورطة على تكثيف انتهاكاتها من دون خوف من المحاسبة.
وحسب تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، فإن الهجمات الإسرائيلية المدعومة بالسلاح الأمريكي على غزة منذ أكتوبر 2023، أسفرت عن استشهاد أكثر من 60 ألف فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين، في حصيلة وصفتها منظمات دولية بأنها كارثية.
ويشير المراقبون إلى أن هذه الهجمات لم تكن لتستمر بهذه الحدة بدون استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، ما يجعل واشنطن شريكًا مباشرًا في ما يُعرف بـ«الدمار الممنهج» للبنية التحتية المدنية الفلسطينية.
في المقابل، يواصل صنّاع القرار الأمريكي تجاهل تقارير المنظمات الحقوقية، مثل «أمنستي» و«هيومن رايتس ووتش»، التي وثّقت استخدام أسلحة أمريكية في استهداف أهداف مدنية، مخالفين بذلك «قانون ليهي» الذي يمنع الولايات المتحدة من دعم قوات تستخدم الأسلحة الأمريكية لارتكاب انتهاكات بحق المدنيين.

تحولات الرأي العام الأمريكي: نهاية الدعم الأعمى؟

داخل الولايات المتحدة، بدأت ملامح التغيير تظهر بوضوح، خاصة بين الشباب والأجيال الجديدة التي تشكك في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل. وأظهر استطلاع حديث لمؤسسة «غالوب» في آذار/مارس 2025 أن نسبة دعم الأمريكيين لإسرائيل انخفضت إلى 46 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ 25 عاماً، في حين أعرب 33 في المئة عن تعاطفهم مع الفلسطينيين.
هذا التحوّل يعكس شعورًا متزايدًا بأن الدعم الأعمى لإسرائيل يتعارض مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يفترض أن تكون من ثوابت السياسة الأمريكية. ويزيد من الضغط الداخلي على الإدارة الأمريكية لمراجعة هذا الدعم الذي لم يجلب السلام بل زاد من معاناة الشعوب وأضاع فرص الحلول السياسية.

النفوذ الدولي والتحديات الاستراتيجية

سياسيًا، تُظهر التحركات الأمريكية في المنطقة مدى هشاشة الدور الأمريكي بسبب هذه السياسة الأحادية. فمع تصاعد النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط، وبروز محاور جديدة، تبدو واشنطن في وضع أقل قوة وتأثيرًا.
فالاستمرار في دعم إسرائيل من دون شروط يُفسر لدى كثير من الدول العربية على أنه تحيّز كامل، ما يدفع هذه الدول إلى البحث عن شركاء آخرين، وتوسيع علاقاتها مع قوى دولية بديلة، مثل موسكو وبكين، في خطوة تُضعف مكانة الولايات المتحدة وتضر بأمن حلفائها التقليديين.
في ظل هذه المعطيات، تتعالى الأصوات التي تدعو إلى إعادة النظر في الدعم الأمريكي لإسرائيل، عبر تقليص المساعدات العسكرية السنوية التي تبلغ حوالي 3.8 مليار دولار، وربطها بتحقيق تقدم حقيقي في ملف السلام وحقوق الفلسطينيين.
كما تُطالب هذه الأصوات بإزالة الضغوط عن المحكمة الجنائية الدولية والسماح لها بممارسة مهامها بحرية كاملة، بما يعزز آليات العدالة والمساءلة الدولية، ويحول دون الإفلات من العقاب.

الخلاصة: ضرورة تغيير المسار

في النهاية، تبدو السياسة الأمريكية الحالية تجاه إسرائيل والمحكمة الجنائية الدولية كعبء متزايد على واشنطن، يهدد سمعتها ويقوّض قدرتها على قيادة مبادرات السلام والعدالة، وفقا للعديد من المحللين الأمريكيين، ويبدو أن استمرار هذا الوضع لن يؤدي إلا إلى مزيد من الصراعات وتعميق الأزمات الإنسانية.
ويبدو أن الحل يكمن في تبني نهج متوازن يعترف بحقوق الفلسطينيين، ويوقف الدعم غير المشروط الذي يغذّي العنف، ويدعم آليات العدالة الدولية التي تضمن مساءلة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان.
وعبر هذه الخطوات فقط، يمكن للولايات المتحدة استعادة دورها كقوة فاعلة ومنصفة في الشرق الأوسط، وتجاوز أزمة الثقة التي تعصف بها على الساحتين الإقليمية والدولية.

اقرأ المزيد من

t>