الأربعاء 15 جمادى الأولى 1447 هـ - 05 نوفمبر 2025

"الهاسبارا" في ثوبها الجديد: كيف تستخدم "إسرائيل" الذكاء الاصطناعي لإعادة هندسة الجمهور

في زمنٍ باتت فيه الكلمة والصورة أكثر تأثيرا من الرصاصة، تسعى "إسرائيل" إلى إعادة تعريف معركتها الدعائية عبر ساحة الفضاء الرقمي والذكاء الصناعي، وتسخير كل الإمكانيات اللازمة لتطوير هذه الآلة.

فمع تراجع التأييد الشعبي لها، خاصة بين فئة الشباب الأمريكيين والأوروبيين، لجأت منظومات الكيان إلى أدوات غير تقليدية تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي العالمي بما يخدم روايتها السياسية والعسكرية.

فمن القنابل والقتل إلى الخوارزميات

لم يكن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو مبالغا حين وصف وسائل التواصل الاجتماعي بأنها "أقوى سلاح" في ترسانة "إسرائيل" الحديثة، حينما علق على صفقة شراء تطبيق تيك توك، التي وصفها بالتاريخية. فالحروب اليوم لا تُخاض فقط في الميدان، بل في أذهان الجماهير وعلى شاشات الهواتف الذكية.

ومن هنا، عمل الكيان خلال الأعوام الأخيرة على توظيف الذكاء الصناعي كأداة للحرب النفسية والإعلامية، في مشروع يدمج بين التكنولوجيا والهاسبارا (Hasbara) أي الدعاية الإسرائيلية الرسمية.

عمل الكيان خلال الأعوام الأخيرة على توظيف الذكاء الصناعي كأداة للحرب النفسية والإعلامية، في مشروع يدمج بين التكنولوجيا والهاسبارا (Hasbara) أي الدعاية الإسرائيلية الرسمية

عقود بملايين الدولارات.. لتلميع صورة متصدعة

كشفت تقارير صحفية أن الحكومة الإسرائيلية وقّعت عقدا بقيمة ستة ملايين دولار مع شركة أمريكية ناشئة تُدعى "Clock Tower X LLC"، بهدف إنتاج محتوى رقمي يستهدف جيل "زد" (Generation Z) على منصات مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب، محققة طموحا لا يقل عن خمسين مليون مشاهدة شهريا. يروج المحتوى للرواية الصهيونية، ويهاجم المحيط العربي والإسلامي، ومكونات المجتمع الفلسطيني، ويشوه مقاومة الشعب الفلسطيني.

هذه الخطوة ليست سوى جزء من حملة أوسع تهدف إلى تغيير النظرة المتنامية السلبية تجاه إسرائيل، خاصة بعد جرائمها المستمرة في غزة منذ أكثر من عامين، والتي أضعفت سرديتها التقليدية حول "الدفاع عن النفس".

ذكاء اصطناعي منحاز.. وصناعة الحقيقة المزيفة

اللافت في المشروع هو تركيزه على التلاعب بخوارزميات الذكاء الاصطناعي نفسها. إذ تخطط الشركة لإنشاء مواقع إلكترونية ومراكز محتوى مصممة خصيصا لتغذية نماذج توليد النصوص مثل "GPT" بمعلومات مؤيدة لإسرائيل، بحيث يتم تشكيل وعي رقمي موجه حتى على مستوى الآلة.

وتشير التقارير إلى استخدام منصة "MarketBrew AI"، وهي أداة لتحسين نتائج البحث، من أجل ضمان أن تتصدر الرواية الإسرائيلية محركات البحث العالمية، في عملية يمكن وصفها بحالة تهكير المجال الرقمي والمعلوماتي كما تحتل "إسرائيل" الأرض.

الدين والسياسة والإعلام.. تحالف نفوذ معقّد

تمتد شبكة النفوذ هذه إلى وسائل الإعلام المحافظة في الولايات المتحدة، عبر شبكة "Salem Media" التي تضم شخصيات مقربة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مثل لارا ترامب ودونالد ترامب جونيور.

ويقود المشروع شخص له تاريخ طويل في توظيف البيانات والرأي العام سياسيا: براد بارسكيل، مدير حملة ترامب السابق والمتورط في فضيحة "Cambridge Analytica" الشهيرة.

وبينما يُعلن المشروع أنه "حملة ضد معاداة السامية"، فإن الهدف الحقيقي يبدو أوضح: إعادة تأهيل صورة إسرائيل في عقول الأمريكيين الذين باتوا يرونها دولة استعمارية تمارس الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.

ذكاء اصطناعي للقمع لا للإبداع

المفارقة أن إسرائيل لا تكتفي باستخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح دعائي، بل توسّع استخدامه في المراقبة والقمع الأمني. فقد وردت تقارير عن اعتقال شاب فلسطيني لمجرد محادثاته مع برنامج "ChatGPT"، واحتجازه لعام كامل دون تهمة.

إنها سابقة خطيرة تُظهر كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحول من أداة معرفة إلى أداة اتهام في يد سلطة أمنية.

ولا يمكن الابتعاد عن استخدام آلات الذكاء الصناعي في عملية الإبادة الجماعية، التي ما زال يمارسها الكيان بحق الشعب الفلسطيني، الذي أسفر عن قتل عشرات آلاف الأبرياء.

"الهاسبارا" الرقمية.. أولوية وزارة خارجية الاحتلال القصوى
تواجه هذه الجهود معضلة حقيقية: جيل الوعي الرقمي. فالشباب اليوم، وخاصة في الغرب، لم يعودوا يعتمدون على القنوات الرسمية، بل على المحتوى المستقل واللقطات القادمة مباشرة من غزة والضفة

منذ تأسيسها، اعتمدت "الهاسبارا" على مبدأ تجميل الجرائم وتبرير الاحتلال تحت شعار "الشرح للعالم". لكنها اليوم لم تعد تكتفي ببيانات رسمية أو مقالات دعائية، بل تحولت إلى نظام رقمي متكامل؛ يجند الصحفيين والمؤثرين، وينتج محتوى ترفيهيا موجّها لتغيير الوعي الجمعي من خلال إدارة الإدراك.

تعمل هذه المنظومة عبر وزارات متعددة (الخارجية، الإعلام، السياحة، ومكتب رئيس الوزراء)، وكلها تتعاون لتصميم صورة تسويقية مزيفة لإسرائيل كدولة "حديثة وديمقراطية"، في حين تُخفي واقع الاحتلال والحصار والقتل الجماعي.

جيل جديد.. لا تنطلي عليه الأكاذيب

رغم ضخ الأموال الهائل، تواجه هذه الجهود معضلة حقيقية: جيل الوعي الرقمي. فالشباب اليوم، وخاصة في الغرب، لم يعودوا يعتمدون على القنوات الرسمية، بل على المحتوى المستقل واللقطات القادمة مباشرة من غزة والضفة.

وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن دعم إسرائيل بين الأمريكيين الشباب تراجع إلى 9 في المئة فقط، وهو مؤشر على فشل الهاسبارا التقليدية أمام واقعٍ لا يمكن إخفاؤه بعدسات الذكاء الاصطناعي ولا بخداع الخوارزميات.

ختاما: معركة الحقيقة لا تُحسم بالبرمجة

ما يجري اليوم ليس مجرد دعاية سياسية، بل حرب على الحقيقة نفسها. فحين تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتزييف الوعي، يصبح الدفاع عن الحقيقة عملا من أعمال المقاومة وواجب الوقت والجهد.

إن الكيان، في سعيه للهيمنة على السرد العالمي، يُظهر خوفه الحقيقي: ليس من الصواريخ، بل من الوعي العالمي المتحرر الذي بات يرى ما حاولت إخفاءه لعقود.

ومهما بلغ ذكاء الخوارزميات، فإنها لن تستطيع محو الحقيقة التي تنبض بها صور الدمار، وصوت طفلٍ يبحث عن عائلته تحت الركام.

اقرأ المزيد من

t>